فصل: تفسير الآيات (52- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (11- 23):

{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)}
{فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} منصب، وهو مبالغة وتمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصابها، وقرأ ابن عامر ويعقوب ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب.
{وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة، وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير للمبالغة. {فَالْتَقَى الماء} ماء السماء وماء الأرض، وقرئ: {الماءان} لاختلاف النوعين {الماوان} بقلب الهزة واواً. {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} على حال قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت، أو على حال قدرت وسويت وهو أن قدر ما أنزل على قدر ما أخرج، أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
{وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ ألواح} ذات أخشاب عريضة. {وَدُسُرٍ} ومسامير جمع دسار من الدسر، وهو الدفع الشديد وهي صفة للسفينة أقيمت مقامها من حيث أنها كالشرح لها تؤدي مؤداها.
{تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا. {جَزَاءً لّمَن كَانَ كُفِرَ} أي فعلنا ذلك جزاء لنوح لأنه نعمة كفروها، فإن كل نبي نعمة من الله تعالى ورحمة على أمته، ويجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير، وقرئ: {لِمَنْ كُفِرَ} أي للكافرين.
{وَلَقَدْ تركناها} أي السفينة أو الفعلة. {ءايَةً} يعتبر بها إذ شاع خبرها واشتهر. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} معتبر، وقرئ: {مذتكر} على الأصل، و{مذكر} بقلب التاء ذالاً والإِدغام فيها.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} استفهام تعظيم ووعيد، والنذر يحتمل المصدر والجمع.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان} سهلناه أو هيأناه من يسر ناقته للسفر إذا رحلها. {لِلذّكْرِ} للادكار والاتعاظ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ.
{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} وإنذاري أتى لهم بالعذاب قبل نزوله، أو لمن بعدهم في تعذيبهم.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} بارداً أو شديد الصوت. {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} شؤم. {مُّسْتَمِرٌّ} أي استمر شؤمه، أو استمر عليهم حتى أهلكهم، أو على جميعهم كبيرهم وصغيرهم فلم يبق منهم أحداً، أو اشتد مرارته وكان يوم الاربعاء آخر الشهر.
{تَنزِعُ الناس} تقلعهم، روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أصول نخل منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض. وقيل شبهوا بالاعجاز لأن الريح طيرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم، وتذكير {مُّنقَعِرٍ} للحمل على اللفظ، والتأنيث في قوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} للمعنى.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} كرره للتهويل. وقيل الأول لما حاق بهم في الدنيا، والثاني لما يحيق بهم في الآخرة كما قال أيضاً في قصتهم {لنذيقنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى} {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} بالإِنذارات والمواعظ، أو الرسل.

.تفسير الآيات (24- 35):

{فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)}
{فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا} من جنسنا أو من حملنا لا فضل له علينا، وانتصابه بفعل يفسره وما بعده وقرئ بالرفع على الابتداء والأول أوجه للاستفهام. {واحدا} منفرداً لاتبع له أو من آحادهم دون أشرافهم. {نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال وَسُعُرٍ} جمع سعير كأنه عكسوا عليه فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على ترك اتباعهم له، وقيل السعر الجنون ومنه ناقة مسعورة.
{ءَأُلْقِي الذكر} الكتاب أو الوحي. {عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} وفينا من هو أحق منه بذلك. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} حمله بطره على الترفع علينا بادعائه إياه.
{سَيَعْلَمُونَ غَداً} عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة. {مَّنِ الكذاب الأشر} الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق وطلب الباطل أصالح عليه السلام أم من كذبه؟ وقرأ ابن عامر وحمزة ورويس ستعلمون على الالتفات أو حكاية ما أجابهم به صالح، وقرئ: {الأشر} كقولهم: حذر في حذر و{الأشر} أي الأبلغ في الشرارة وهو أصل مرفوض كالأخير.
{إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} مخرجوها وباعثوها. {فِتْنَةً لَّهُمْ} امتحاناً لهم. {فارتقبهم} فانتظرهم وتبصر ما يصنعون. {واصطبر} على أذاهم.
{وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} مقسوم لها يوم ولهم يوم، و{بَيْنَهُمْ} لتغليب العقلاء. {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} يحضره صاحبه في نوبته أو يحضره عنه غيره. {فَنَادَوْاْ صاحبهم} قدار بن سالف أحيمر ثمود {فتعاطى فَعَقَرَ} فاجترأ على تعاطي قتلها فقتلها أو فتعاطى السيف فقتلها والتعاطي تناول الشيء بتكلف.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة} صيحة جبريل عليه السلام. {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة لأجلها أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء، وقرئ بفتح الظاء أي كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُذَكّرٌ}. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر}. {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} ريحاً تحصبهم بالحجارة أي ترميهم. {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} في سحر وهو آخر الليل أو مسحرين.
{نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا} إنعاماً منا وهو علة لنجينا. {كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} نعمتنا بالإِيمان والطاعة.

.تفسير الآيات (36- 51):

{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)}
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوط. {بَطْشَتَنَا} أخذتنا بالعذاب. {فَتَمَارَوْاْ بالنذر} فكذبوا بالنذر متشاكين.
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} قصدوا الفجور بهم. {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فمسحناها وسويناها بسائر الوجه. روي أنهم لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل عليه السلام صفقة فأعماهم. {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} فقلنا لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة أو ظاهر الحال.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} وقرئ: {بُكْرَةً} غير مصروفة على أن المراد بها أول نهار معين. {عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} يستقر بهم حتى يسلمهم إلى النار.
{فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} كرر ذلك في كل قصة إشعاراً بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب واستماع كل قصة مستدع للادكار والاتعاظ، واستئنافاً للتنبيه والاتعاظ لئلا يغلبهم السهو والغفلة، وهكذا تكرير قوله: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} ونحوهما.
{وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر} اكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك منهم.
{كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا} يعني الآيات التسع. {فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ} لا يغالب. {مُّقْتَدِرٍ} لا يعجزه شيء.
{أكفاركم} يا معشر العرب. {خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ} الكفار المعدودين قوة وعدة أو مكانة وديناً عند الله تعالى. {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ في الزبر} أم نزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمان من العذاب.
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ} جماعة أمرنا. {مُّنتَصِرٌ} ممتنع لا نرام أو منتصر من الأعداء لا نغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضاً والتوحيد على لفظ الجميع.
{سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} أي الأدبار وإفراده لإِرادة الجنس، أو لأن كل واحد يولي دبره وقد وقع ذلك يوم بدر وهو من دلائل النبوة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه لما نزلت قال: لم أعلم ما هو فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الدرع ويقول: «سيهزم الجمع»، فعلمته.
{بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} موعد عذابهم الأصلي وما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه. {والساعة أدهى} أشد، والداهية أمر فظيع لا يهتدي لدوائه. {وَأَمَرُّ} مذاقاً من عذاب الدنيا.
{إِنَّ المجرمين في ضلال} عن الحق في الدنيا. {وَسُعُرٍ} ونيران في الآخرة.
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِمْ} يجرون عليها. {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي يقال لهم ذوقوا حر النار وألمها فإن مسها سبب التألم بها، وسقر علم لجهنم ولذلك لم يصرف من سقرته النار وصقرته إذا لوحته.
{إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ} أي إنا خلقنا كل شيء مقدراً مرتباً على مقتضى الحكمة، أو مقدراً مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبراً لا نعتاً ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر، ولعل اختيار النصب هاهنا مع الإِضمار لما فيه من النصوصية على المقصود.
{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} إلا فعلة واحدة وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة، أو {إِلا} كلمة واحدة وهو قوله كن. {كَلَمْحٍ بالبصر} في اليسر والسرعة، وقيل معناه معنى قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر}.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم} أشباهكم في الكفر ممن قبلكم. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ.

.تفسير الآيات (52- 55):

{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}
{وَكُلُّ شَئ فَعَلُوهُ في الزبر} مكتوب في كتب الحفظة.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الأعمال. {مُّسْتَطَرٌ} مسطور في اللوح.
{إِنَّ المتقين في جنات وَنَهَرٍ} أنهار واكتفى باسم الجنس، أو سعة أو ضياء من النهار. وقرئ: {نهر} وبضم الهاء جمع نهر كأسد وأسد.
{فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مكان مرضي، وقرئ: {مقاعد صدق}. {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} مقربين عند من تعالى أمره في الملك، والاقتدار بحيث أبهمه ذوو الأفهام.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر».

.سورة الرحمن:

مكية أو مدنية أو متبعضة وآيها ثمان وسبعون آية.

.تفسير الآيات (1- 12):

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)}
{الرحمن عَلَّمَ القرءان} لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والآخروية صدرها ب {الرحمن}، وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوعي وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصداق لها، ثم اتبعه قوله: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} إيماء بأن خلق البشر وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو التعبير عما في الضمير وإفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي وتعرف الحق وتعلم الشرع، وإخلاء الجمل الثلاث التي هي أخبار مترادفة ل {الرحمن} عن العاطف لمجيئها على نهج التعديد.
{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما، وتتسق بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب.
{والنجم} والنبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له. {والشجر} الذي له ساق. {يَسْجُدَانِ} ينقادان لله تعالى فيما يريد بهما طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً، وكان حق النظم في الجملتين أن يقال: وجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر. أو {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ}، والنجم والشجر يسجدان له، ليطابقا ما قبلهما وما بعدهما في اتصالهما ب {الرحمن}، لكنهما جردتا عما يدل على الاتصال إشعاراً بأن وضوحه يغنيه عن البيان، وإدخال العاطف بينهما لاشتراكهما في الدلالة على أن ما يحس به من تغيرات أحوال الأجرام العلوية والسفلية بتقديره وتدبيره.
{والسماء رَفَعَهَا} خلقها مرفوعة محلاً ومرتبة، فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته، وقرئ بالرفع على الابتداء. {وَوَضَعَ الميزان} العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه السلام: «بالعدل قامت السموات والأرض» أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما، كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقرار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والمواجب.
{أَلاَّ تَطْغَوْاْ في الميزان} لئلا تطغوا فيه أي لا تعتدوا ولا تجاوزوا الانصاف، وقرئ: {لا تطغوا} على إرادة القول.
{وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} ولا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه، وتكريره مبالغة في التوصية به وزيادة حث على استعماله، وقرئ: {وَلاَ تُخْسِرُواْ} بفتح التاء وضم السين وكسرها، و{تُخْسِرُواْ} بفتحها على أن الأصل {وَلاَ تُخْسِرُواْ} في {الميزان} فحذف الجار وأوصل الفعل.
{والأرض وَضَعَهَا} خفضها مدحوة. {لِلأَنَامِ} للخلق. وقيل الأنام كل ذي روح.
{فِيهَا فاكهة} ضروب مما يتفكه به. {والنخل ذَاتُ الاكمام} أوعية التمر جمع كم، أو كل ما يكم أي يغطى من ليف وسعف وكفري فإنه ينتفع به كالمكموم كالجذع والجمار والتمر.
{والحب ذُو العصف} كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذى به، و{العصف} ورق النبات اليابس كالتين. {والريحان} يعني المشموم، أو الرزق من قولهم: خرجت أطلب ريحان الله، وقرأ ابن عامر {والحب ذا العصف والريحان} أي وخلق الحب والريحان أو وأخص، ويجوز أن يراد وذا الريحان فحذف المضاف، وقرأ حمزة والكسائي {والريحان} بالخفض ما عدا ذلك بالرفع، وهو فيعلان من الروح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف، وقيل: {روحان} فقلبت واوه ياء للتخفيف.